الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
وفندت الرجل أفسدت رأيه ورددته قال: وأفند الدهر فلاناً أفسده. قال ابن مقبل: القديم: الذي مرت عليه أعصار، وهو أمر نسبي. البدو البادية وهي خلاف الحاضرة.{ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فلما أن جآء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيراً قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا يأبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم}: فصل من البلد يفصل فصولاً انفصل منه وجاوز حيطانه، وهو لازم. وفصل الشيء فصلاً فرق، وهو متعد. ومعنى فصلت العير: انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب، وكان قريباً من بيت المقدس. وقيل: بالجزيرة، وبيت المقدس هو الصحيح، لأنّ آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن. وقرأ ابن عباس: ولما انفصل العير، قال ابن عباس: وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام، هاجت ريح فحملت عرفه. وقال الحسن وابن جريج: من ثمانين فرسخاً، وكان مدة فراقه منه سبعاً وسبعين سنة. وعن الحسن أيضاً: وجده من مسيرة ثلاثين يوماً، وعنه: مسيرة عشر ليال. وعن أبي أيوب المهروي: أن الريح استأذنت في إيصال عرف يوسف إلى يعقوب، فأذن لها في ذلك. وقال مجاهد: صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا، واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص. ومعنى لأجد: لأشم فهو وجود حاسة الشم. وقال الشاعر: ومعنى تفندون قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: تسفهون. وعن ابن عباس أيضاً: تجهلون، وعنه أيضاً: تضعفون. وقال عطاء وابن جبير: تكذبون. وقال الحسن: تهرمون. وقال ابن زيد، والضحاك ومجاهد أيضاً: تقولون ذهب عقلك وخرفت. وقال أبو عمرو: تقبحون. وقال الكسائي: تعجزون. وقال أبو عبيدة: تضللون. وقيل: تخطئون. وهذه كلها متقاربة في المعنى، وهي راجعة لاعتقاد فساد رأي المفند إما لجهله، أو لهوى غالب عليه، أو لكذبه، أو لضعفه وعجزه لذهاب عقله بهرمه. وقال منذر بن سعيد البلوطي: يقال شج مفند أي: قد فسر رأيه، ولا يقال: عجوز مفندة، لأن المرأة لم يكن لها رأي قط أصيل فيدخله التفنيد. وقال معناه الزمخشري قال: التفنيد النسبة إلى الفند وهو الخوف وإنكارالعقل، من هرم يقال: شيخ مفند، ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فنفند في كبرها، ولولا هنا حرف امتناع لوجود، وجوابها محذوف.قال الزمخشري: المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني انتهى. وقد يقال: تقديره لولا أن تفندوني لأخبرتكم بكونه حياً لم يمت، لأن وجداني ريحه دال على حياته. والمخاطب بقوله: تفندون، الظاهر من تناسق الضمائر أنه عائد على من كان بقي عنده من أولاده غير الذين راحوا يمتارون، إذ كان أولاده جماعة. وقيل: المخاطب ولد ولده ومن كان بحضرته من قرابته. والضلال هنا لا يراد به ضد الهدى والرّشاد، قال ابن عباس: المعنى إنك لفي خطئك، وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين، ولذلك يقال له: ذو الحزنين. وقال مقاتل: الشقاء والعناء. وقال ابن جبير: الجنون، ويعني والله أعلم غلبة المحبة. وقيل: الهلاك والذهاب من قولهم: ضل الماء في اللبن أي: ذهب فيه. وقيل: الحب، ويطلق الضلال على المحبة. وقال ابن عطية: ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به، وقد تأوله بعض الناس على ذلك، ولهذا قال قتادة: قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم، ولا لنبي الله صلى الله عليه وسلم. وقال الزمخشري: لفي ذهابك عن الصواب قدماً في إفراط محبتك ليوسف، ولهجك بذكره، ورجاءك لقاءه، وكان عندهم أنه قد مات. روي عن ابن عباس أنّ البشير كان يهوذا، لأنه كان جاء بقميص الدم. وقال أبو الفضل الجوهري: قال يهوذا لإخوته: قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص القرحة، فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه، وقال هذا المعنى: السدي. وأن تطرد زيادتها بعد لما، والضمير المستكن في ألقاه عائد على البشير، وهو الظاهر، هو لقوله: فألقوه. وقيل: يعود على يعقوب، والظاهر أنه أريد الوجه كله كما جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئاً يعتقد فيه البركة مسح به وجهه. وقيل: عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه. وقيل: عبر بالكل عن البعض. وارتدَّ عدّه بعضهم في أخوات كان، والصحيح أنها ليست من أخواتها، فانتصب بصيراً على الحال والمعني: أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر. ففي الكلام ما يشعر أنّ بصره عاد أقوى مما كان عليه وأحسن، لأنّ فعيلاً من صيغ المبالغة، وما عدل من مفعل إلى فعيل إلا لهذا المعنى انتهى. وليس كذلك لأنّ فعيلاً هنا ليس للمبالغة، إذ فعيل الذي للمبالغة هو معدول عن فاعل لهذا المعنى. وأما بصيراً هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء، فهو جار على قياسٍ فعل نحو ظرف فهو ظريف، ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضاً، لأنّ فعيلاً بمعنى ليس للمبالغة نحو: أليم وسميع بمعنى مؤلم ومسمع.وروي أن يعقوب سأل البشير كيف يوسف؟ قال: ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك؟ قال: على أي دين تركته؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة. وقال الحسن: لم يجد البشير عند يعقوب شيئاً يبيته به وقال: ما خبرنا شيئاً منذ سبع ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت. وقال الضحاك: رجع إليه بصره بعد العمى، والقوة بعد الضعف، والشباب بعد الهرم، والسرور بعد الكرب. والظاهر أن قوله: إني أعلم، محكي بالقول ويريد به إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون. فقيل: ما لا تعلمون من حياة يوسف، وأن الله يجمع بيننا وبينه. وقيل: من صحة رؤيا يوسف عليه السلام، وقيل: من بلوى الأنبياء بالحزن، ونزول الفرج، وقيل: من إخبار ملك الموت إياي، وكان أخبره أنه لم يقبض روحه. وقال ابن عطية: ما لا تعلمون هو انتظاره لتأويل الرؤيا، ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله فقط. وقال الزمخشري: ألم أقل لكم يعني قوله: إني لأجد ريح يوسف، أو قوله: ولا تيأسوا من روح الله. وقوله إني أعلم، كلام مبتدأ لم يقع عليه القول انتهى. وهو خلاف الظاهر الذي قدمناه. ولما رجع إليه بصره وقرت عينه بالمسير إلى ابنه يوسف، وقررهم على قوله: ألم أقل لكم؟ طلبوا منه أن يستغفر لهم الله لذنوبهم، واعترفوا بالخطأ السابق منهم، وسوف أستغفر لكم: عدة لهم بالاستغفار بسوف، وهي أبلغ في التنفيس من السين. فعن ابن مسعود: أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر. وعن ابن عباس: إلى ليلة الجمعة، وعنه: إلى سحرها. قال السدي، ومقاتل، والزجاج: أخر لإجابة الدعاء، لا ضنة عليهم بالاستغفار. وقالت فرقة: سوف إلى قيام الليل. وقال ابن جبير وفرقة: إلى الليالي البيض، فإن الدعاء فيها يستجاب. وقال الشعبي: أخره حتى يسأل يوسف، فإن عفا عنهم استغفر لهم. وقيل: أخرهم ليعلم حالهم في صدق التوبة وإخلاصها. وقيل: أراد الدوام على الاستغفار لهم. ولما وعدهم بالاستغفار رجاهم بحصول الغفران بقوله: إنه هو الغفور الرحيم.
وقيل: السجود هنا التواضع، والخرور بمعنى المرور لا السقوط على الأرض لقوله: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً} أي لم يمروا عليها. وقال ثابت: هذا تأويل رؤياي من قبل أي: سجودكم هذا تأويل، أي: عاقبة رؤياي أنّ تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين: ومن قبل متعلق برؤياي، والمحذوف في من قبل تقديره: من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي. ومن تأول أنّ أبويه لم يسجدا له زعم أن تعبير الرؤيا لا يلزم أن يكون مطابقاً للرؤيا من كل الوجوه، فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس.ولا شك أن ذهاب يعقوب عليه السلام مع ولده من كنعان إلى مصر لأجل يوسف نهاية في التعظيم له، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا وعن ابن عباس: أنه لما رأى سجود أبويه وإخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه. وقال ليعقوب: هذا تأويل رؤياي من قبل، ثم ابتدأ يوسف عليه السلام بتعديد نعم الله عليه فقال: قد جعلها ربي حقاً أي: صادقة، رأيت ما يقع في المنام يقظة، لا باطل فيها ولا لغو. وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض. قيل: ثمانون سنة، وقيل: ثمانية عشر عاماً. وقيل: غير ذلك من رتب العدد. وكذا المدة التي أقام يعقوب فيها بمصر عند ابنه يوسف خلاف متناقض، وأحسن أصله أن يتعدى بإلى قال: {وأحسن كما أحسن الله إليك} وقد يتعدى بالباء قال تعالى: {وبالوالدين إحساناً} كما يقال أساء إليه، وبه قال الشاعر: وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف، فعداه بالباء، وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحاً عن ذكر ما تعلق بقول إخوته، وتناسياً لما جرى منهم إذ قال: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم} وتنبيهاً على طهارة نفسه، وبراءتها مما نسب إليه من المراودة. وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب، إلى أن بيع مع العبيد، وجاء بكم من البدو من البادية. وكان ينزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام ببادية فلسطين، وكان رب إبل وغنم وبادية. وقال الزمخشري: كانوا أهل عمد وأصحاب مواش يتنقلون في المياه والمناجع. قيل: كان تحول إلى بادية وسكنها، فإنّ الله لم يبعث نبياً من أهل البادية. وقيل: كان خرج إلى بدا وهو موضع وإياه عني جميل بقوله: وليعقوب عليه السلام بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال: بداً القوم بدوا، إذا أتوا بدا كما يقال: غاروا غوراً. إذ أتوا الغور. والمعنى: وجاء بكم من مكان بدا، ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك، وعن ابن عباس. وقابل يوسف عليه السلام نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بابيه وإخوته، وزوال حزن أبيه. ففي الحديث: «من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة» من بعد أن نزغ أي أفسد، وتقدم الكلام على نزع، وأسند النزغ إلى الشيطان لأنه الموسوس كما قال: {فأزلهما الشيطان عنها} وذكر هذا القدر من أمر إخوته، لأنّ النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء كانت أحسن موقعاً. إن ربي لطيف، أي: لطيف التدبير لما يشاء من الأمور، رفيق.ومن في قوله من الملك، وفي من تأويل للتبعيض، لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا، ولا علمه إلا بعض التأويل. ويبعد قول من جعل من زائدة، أو جعلها البيان الجنس، والظاهر أن الملك هنا ملك مصر. وقيل: ملك نفسه من إنفاذ شهوته. وقال عطاء: ملك حساده بالطاعة، ونيل الأماني من الملك. وقرأ عبد الله، وعمرو بن ذر: آتيتن، وعلمتن بحذف الياء منهما اكتفاء بالكسرة عنهما، مع كونهما ثابتتين خطاً. وحكى ابن عطية عن ابن ذرانة: قرأ رب آتيتني بغير قد، وانتصب فاطر على الصفة، أو على النداء. وأنت وليي تتولاني بالنعمة في الدارين، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي. وذكر كثير من المفسرين أنه لما عد نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه، ورأى أنّ الدنيا كلها فانية فتمنى الموت. وقال ابن عباس: لم يتمن الموت حي غير يوسف، والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت، وإنما عدد نعمه عليه، ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي: توفني إذا حان أجلي على الإسلام، واجعل لحاقي بالصالحين. وإنما تمنى الوفاة على الإسلام لا الموت، والصالحين أهل الجنة أو الأنبياء، أو آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وعلماء التاريخ يزعمون أنّ يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام، وله من الولد: افراثيم، ومنشا، ورحمة زوجة أيوب عليه السلام. قال الذهبي: وولد لافراثيم نون، ولنون يوشع، وهو فتى موسى عليه السلام. وولد لمنشأ موسى، وهو قبل موسى بن عمران عليه السلام. ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر، وكان ابن عباس ينكر ذلك. وثبت في الصحيح أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران، وتوارثت الفراعنة ملك مصر، ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه السلام إلى أن بعث موسى عليه السلام.
|